فصل: أنواع ‏النفاق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏5‏)‏

{‏ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول، والإيقان بالآخرة ‏{‏على هدى‏}‏ أي على نور وبيان وبصيرة من اللّه تعالى، ‏{‏ولأولئك هم المفلحون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس ‏{‏على هدى من ربهم‏}‏ أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما هربوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6‏)‏

{‏ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي غطوا الحق وستروه، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين حقَّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آيةٍ حتى يروا العذاب الإليم‏}‏ أي إن من كتب اللّه عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا يهمنك ذلك ‏{‏فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏‏.‏

وعن ابن عباس في قوله ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ الآية قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللّه تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللّه السعادةُ في الذكر الأول، ولا يضلّ إلاّ من سبق له من اللّه الشقاء في الذكر الأول‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7‏)‏

{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ‏}

‏{‏ختم اللّه‏}‏ أي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم ‏{‏وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الختم‏:‏ الطبعُ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبعُ، والطبعُ الختم، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال‏:‏ ‏{‏بل طبع الله عليها بكفرهم‏}‏، وفي الحديث ‏(‏يا مقلِّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ إن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ إخبار من اللّه عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دُعوا إليه من الحق، كما يقال‏:‏ فلان أصمَّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه ورَفَع نفسه عن تفهمه تكبراً، قال‏:‏ وهذا لا يصح لأن اللّه قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم‏.‏ قلت‏:‏ وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردّه ابن جرير ههنا، وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً، وما جرّأه على ذلك إلا اعتزاله، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليه قبيح عنده يتعالى اللّه عنه في اعتقاده‏.‏ ولو فهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏}‏ وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحا بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسنٌ وليس بقبيح - فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبرُ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةً سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون‏}‏‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ ومعنى استعتب‏:‏ رجع عن الإساءة، وطلب الرضى‏.‏ كذا في النهاية لابن الأثير‏.‏‏"‏فأخبر صلى اللّه عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل اللّه تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره اللّه في قوله‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم‏}‏ نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعيه والظروف‏.‏

 الآية رقم‏(‏8‏:‏9‏)‏

{‏ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ‏.‏ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ‏}

لما تقدم وصف المؤمني في صدر السورة بأربع آيات، ثمّ عرف حال الكافرين بآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولمّا كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كلٌ منها نفاق، كما أنزل سورة براءة وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور، تعريفاً لأحوالهم لتُجتَنَبَ ويُجتنب من تلبّس بها أيضاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله ‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏.‏

والنفاق‏:‏ هو إظهار الخير وإسرار الشر،  وهو أنواع‏:‏ اعتقادي‏:‏ وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي‏:‏ وهو من أكبر الذنوب، لأن المنافق يخالف قولُه فعله، وسره علانيَتَه، وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة المدنية، لأن مكّة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه، ولهذا نبّه اللّه سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الإحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفّار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظنَّ بأهل الفجور خيراً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر‏}‏ أي يقولون ذلك قولاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله‏}‏، أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر، وليس الأمر كذلك، كما كذبهم اللّه في شهادتهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ وفي اعتقادهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما هم بمؤمنين‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخادعون الله والذين آمنوا‏}‏ أي بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون اللّه بذلك وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما يخدعون إلا أنفسَهم وما يشعرون‏}‏ أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم‏}‏، ومن القراء من قرأ‏:‏

وما يخادعون وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10‏)‏

{‏ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ‏}

{‏ في قلوبهم مرضٌ‏}‏ أي شكٌّ ‏{‏فزادهم الله مرضا‏}‏ شكاً، وعن ابن عباس ‏{‏مرضٌ‏}‏ نفاقٌ ‏{‏فزادهم الله مرضاً‏}‏ نفاقاً، وهذا كالأول‏.‏ وقال عبد الرحمن بن أسلم‏:‏ هذا مرضٌ في الدين وليس مرضاً في الأجساد، والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام ‏{‏فزادهم الله مرضاً‏}‏ أي زادهم رجساً‏.‏ وقرأ‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون‏.‏ وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ يعني شراً إلى شرهم، ضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله هو الجزاء من جنس العمل ‏{‏ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون‏}‏ وقرئ

يَكْذبون و ويُكَذّبون وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا، وحكمة كفّه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين، مع علمه بأعيان بعضهم ما ثبت في الصحيحين أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لعمر رضي اللّه عنه‏:‏ ‏(‏أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه‏)‏ ‏"‏هو جزء من حديث شريف أخرجه الشيخان‏"‏ومعنى هذا خشيته عليه السلام أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون‏:‏ إن محمداً يقتل أصحابه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إنما منع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يجبُّ ما قبله، وفي الحديث المجمع على صحته‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه عز وجل‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان وهو حديث متواتر‏"‏ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا ‏{‏ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله‏}‏ الآية فهم يخالطونهم في المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم ‏{‏وحيل بينهم وبين ما يشتهون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11‏:‏12‏)‏

{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون‏.‏ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ‏}

قال السُّدي عن ابن مسعود وعن أُناسٍ من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ هم المنافقون، والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية، وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏لا تفسدوا في الأرض‏}‏ يعني لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية اللّه، لأنه من عصى اللّه في الأرض، أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وقال مجاهد‏:‏ إذا ركبوا معصية اللّه فقيل لهم‏:‏ لا تفعلوا كذا وكذا قالوا‏:‏ إنما نحن على الهدى مصلحون‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب باللّه وكتبه ورسله على أولياء اللّه إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها‏.‏ فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، وغرَّهم بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون‏}‏ أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، قال ابن عباس ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون‏}‏ يقول‏:‏ ألا إن هذا الذي يزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13‏)‏

{‏ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس‏}‏ أي كلإيمان الناس باللّه وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به، وأطيعوا اللّه ورسوله في امتثال الأوامر، وترك الزواجر ‏{‏قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء‏}‏‏؟‏ يعنون - لعنهم اللّه - أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون‏:‏ أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة، وهم سفهاء‏؟‏

والسفيه‏:‏ هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بالمصالح والمضار، ولهذا سمى اللّه النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل اللّه لكم قياما‏}‏ وقد تولى سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم السفهاء‏}‏ فأكد وحصر السفاهة فيهم ‏{‏ولكن لا يعلمون‏}‏ يعني ومن تمام جهلهم أنه لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى والبعد عن الهدى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14 ‏:‏ 15‏)‏

{‏ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ‏.‏ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ‏}

أي، وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين‏:‏ قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة، غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم‏}‏ يعني إذا انصرفوا وخلصوا إلى شياطينهم، فضمّن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم، ورؤساؤهم من أحبار اليهود، ورؤوس المشركين والمنافقين، قال السُّدي عن ابن مسعود ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم‏}‏ يعني رؤساءهم في الكفر، وقال ابن عباس‏:‏ هم أصحابهم من اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد‏:‏ أصحابهم من المنافقين والمشركين، وقال قتادة‏:‏ رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر ‏"‏وهو قول أبي العالية والسُّدي والربيع بن أنَس وغيرهم‏"‏، قال ابن جرير‏:‏ وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا إنا معكم‏}‏ أي إنا على مثل ما أنتم عليه ‏{‏إنما نحن مستهزءون‏}‏ أي إنما نستهزىء بالقوم ونلعب بهم، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مستهزئون‏}‏ ساخرون بأصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم‏:‏ ‏{‏الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يسخر بهم للنقمة منهم ‏{‏ويمدهم‏}‏ يملي لهم، وقال مجاهد‏:‏ يزيدهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون‏}‏، قال ابن جرير‏:‏ أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم‏}‏ الآية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما‏}‏ الآية، قال‏:‏ فهذا وما أشبهه من استهزاء اللّه تعالى ومكره وخديعته بالمنافقين وأهل الشرك، وقال آخرون‏:‏ استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ارتكبوا من معاصيه، وقال آخرون‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الله يستهزىء بهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يخادعون الله وهو خادعهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏ وما أشبه ذلك إخبار من اللّه أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، معاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف يسمى هذا النوع عند علماء البيان المشاكلة وهو أن تتفق الجملتان في اللفظ وتختلفا في المعنى كقول القائل‏:‏

قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه * قلت‏:‏ اطبخوا لي جبة وقميصا

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه‏}‏ فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما، وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك والعمه‏:‏ الضلال، يقال‏:‏ عمه عمهاً إذا ضل، وقوله‏:‏ ‏{‏في طغيانهم يعمهون‏}‏ أي في ضلالتهم وكفرهم يترددون حيارى، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن اللّه قد طبع على قلوبهم، وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً، وقا بعضهم‏:‏ العمه في القلب، والعمى في العين، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً كم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏16‏)‏

{‏ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين‏}

قال السدي عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابه ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وعن ابن عباس ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ أي الكفر بالإيمان، وقال مجاهد‏:‏ آمنوا ثم كفروا، وقال قتادة‏:‏ استحبوا الضلالة على الهدى‏.‏ وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود‏:‏ ‏{‏فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى‏}‏‏.‏

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم‏:‏ أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين‏}‏ أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك وقال ابن جرير عن قتادة‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين‏}‏ قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 18‏)‏

{‏ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ‏.‏ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ‏}

يقال‏:‏ مَثَل، والجمع أمثال، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقِلها إلا العالمون‏}‏، وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها ‏.‏‏.‏‏.‏ فبينما هو كذلك إذا طفئت ناره وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم‏.‏

وقال الرازي‏:‏ والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين‏.‏

وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏.‏ صم بكم عمي فهم لا يرجعون‏}‏، وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان، ‏{‏وتركهم في ظلمات‏}‏ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق‏.‏ ‏{‏لا يبصرون‏}‏ لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ‏{‏صم‏}‏ لا يسمعون خيراً، ‏{‏بكم‏}‏ لا يتكلمون بما ينفعهم، ‏{‏عمي‏}‏ في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏ فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19 ‏:‏ 20‏)‏

{‏أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ‏.‏ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ‏}

هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أُخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيِّب والصيب‏:‏ المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق، و رعد ‏:‏ وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون، لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون‏}‏ و البرق ‏:‏ هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين‏}‏ أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بهم بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب‏.‏ والله من ورائهم محيط‏}‏ أي بهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ أي لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ أي لشدة ضوء الحق ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏ أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا‏:‏ أي متحيرين‏.‏ وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضىء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى، ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً‏}‏ وقال في حق المؤمنين‏:‏ ‏{‏يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه‏.‏ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا‏.‏ واغفر لنا إنك على كل شيء قدير‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير‏}‏ عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏، قال‏:‏ لما تركوا من الحق بعد معرفته، ‏{‏إن الله على كل شيءقدير‏}‏‏:‏ أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم‏.‏ وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين‏.‏ وتكون أو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ بمعنى الواو، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ أو تكون للتخيير‏.‏ أي اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا‏.‏ قال القرطبي‏:‏ أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، ووجَّهه الزمخشري بأن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله‏:‏ سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات، كما ذكرها اللّه تعالى في سورة براءة- ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعلُ هذن المثلين لصنفين منهم أشدُّ مطابقة لأحوالهم وصفاتهم واللّه أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏، إلى أن قال‏:‏ ‏{‏أو كظلمات في بحر لُجّي‏}‏ الآية‏.‏ فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، واللّه أعلم بالصواب‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏21 ‏:‏ 22‏)‏

{‏ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ‏.‏ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ‏}

شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيدة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً‏:‏ أي مهداً كالفراش، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشامخات‏.‏ ‏{‏والسماء بناءً‏}‏ وهو السقف، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون‏}‏، ‏{‏وأنزل من السماء ماء‏}‏ والمرادُ به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم‏.‏ ومضمونه‏:‏ أنه الخالق الرازق مالك الدار ساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون‏}وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال، قلت‏:‏ يا رسول الله أيِّ الذنب أعظم عند اللهّ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل للّه نداً وهو خلقك ‏)‏ الحديث‏.‏ وكذا حديث معاذ‏:‏ أتدري ما حق اللّه على عباده‏؟‏ ‏(‏أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً‏)‏ ‏"‏هو جزء من حديث أخرجه الشيخان‏"‏الحديث، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏لا يقولنَّ أحدكم ما شاء اللّه وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء اللّه ثم شاء فلان‏)وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رجل للنبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ما شاء اللّه وشئت، فقال‏:‏ ‏(‏أجعلتني لله نِدّاً‏؟‏ قل ما شاء اللّه وحده‏)‏ ‏"‏أخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس‏"‏وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد واللّه أعلم‏.‏

قال ابن عباس، قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وعنه أيضاً ‏{‏فلا تجعلوا للّه أنداداً وأنتم تعلمون‏}‏‏:‏ أي لا تشركوا باللّه غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أنه لا رب لكم يرزقكم غيره‏.‏ وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ أي عدلاء شركاء، وقال مجاهد ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون‏}‏ قال‏:‏ تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل‏.‏

‏"‏ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة‏"‏

روى الإمام أحمد بسنده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطىْ بها فقال له عيسى عليه السلام إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإمّا أن تبلغهن وإمّا أن أبلغهن‏؟‏ فقال‏:‏ يا أخي أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخْسف بي‏.‏ قال‏:‏ فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشَّرف فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إن اللّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن‏.‏ أولهن أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً فإن مَثَل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بَوَرِق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلّته إلى غير سيده،، فأيكم يسرّه أن يكون عبده كذلك‏؟‏ وإن اللّه خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأمركم بالصلاة فإن اللّه ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا وأمركم بالصيام فإن مَثَل ذلك كمثل رجل معه صره من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏.‏ وأمركم بالصدقة فإن مّثّل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ فشدُّوا يديه إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه فقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم‏؟‏ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه‏.‏ وأمركم بذكر اللّه كثيراً وإن مَثَل ذلك كمثل رجلٍ طلبه العدوّ سراعاُ في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصَّن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر اللّه ‏)‏‏.‏

قال، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وأنا آمركم بخمس، اللّه أمرني بهن‏:‏ الجماعة والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل اللّه‏.‏ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم‏(‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله وإن صام وصلّى، فقال‏:‏ ‏(‏وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سمّاهم اللّه عز وجل المسلمين المؤمنين عباد اللّه ‏)‏هذا حديث حسن‏.‏

وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عَلِم قدرةَ خالقها وحكمته، وعلمه وإتقانه، وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل‏:‏ ما الدليل على وجود الرب تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ يا سبحان اللّه إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج‏!‏ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير‏؟‏‏.‏

وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات، والأصوات، والنغمات‏.‏ وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم‏:‏ دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها - وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا شيء لا يقوله عاقل‏!‏ فقال‏:‏ ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع‏؟‏‏!‏ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه‏.‏ وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال‏:‏ هذا ورق التوت طعمُه واحدٌ تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم الإبريسم‏:‏ الحرير‏.‏وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال‏:‏ ههنا حصنٌ حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب والإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكلٍ حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد‏:‏

تأملْ في نبات الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك

عيونٌ من لجين شاخصاتُ * بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات * بأنَّ اللّه ليس له شريك

وقال ابن المعتز‏:‏

فيا عجبا كيف يعصى الإل * ه الإله أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد

وقال آخرون‏:‏ من تأمّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارات ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، وانظَر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحمر مختلفٌ ألوانها وغرابيبُ سود‏}‏ وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم وإحسانه إليهم، لا إله غيره ولا ربَّ سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏23 ‏:‏ 24‏)‏

{‏ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين‏.‏ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ‏}

ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطباً للكافرين‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا‏}‏ يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، فأتوا بسورة من مِثْل ما جاء به؛ إن زعمتم أنه من عند غير اللّه، فعارضوه بمثْل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون اللّه فإنكم لا تستطيعون ذلك‏.‏

قال ابن عباس ‏{‏شهداءكم‏}‏‏:‏ أعوانكم، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقد تحدّاهم اللّه تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القَصَص‏:‏ ‏{‏قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين‏}‏ وقال في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏}‏ وقال في سورة هود‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورة مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏ وقال في سورة يونس‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏، وكل هذه الآيات مكية‏.‏ ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب‏}‏ أي شك ‏{‏مما نزلنا على عبدنا‏}‏ يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة ‏"‏واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي وأكثر المحققين‏"‏ورجح ذلك بوجوه من أحسنها‏:‏ أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا بعشر سور مثل‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يأتون بمثله‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ من مثل محمد يعني من رجل أُمّيّ مثله، والصحيحُ الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكّة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا‏}‏ و لن لنفي التأبيد في المستقبل، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أُخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازما قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ولا يمكن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام اللّه خالق كل شيء‏؟‏ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين‏؟‏

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفيه، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‏}‏ فأحكمت ألفاظه، وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكلَّ من لفظه ومعناه فصيح لا يُحاذي ولا يُداني‏.‏ فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمو ربك صدقا وعدلا‏}‏ أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام، فكلُّه حق وصدق، وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء، كما يوجد في اشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه وتجد في القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاَ، إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتاً أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته‏.‏

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وأجمالاً، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرَّر حلا وعلا، لا يخلُق عن كثرة الرد، ولا يملُّ منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات‏؟‏ وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، وشوّق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون‏}‏، وقال في الترهيب‏:‏ ‏{‏أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر‏}‏، ‏{‏أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير‏}‏، وقال في الزجر‏:‏ ‏{‏فلا أخذنا بذنبه‏}‏، وقال في الوعظ‏:‏ ‏{‏أفرأيت إن متّعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يُمتَّعون‏}‏ إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة‏.‏

وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف‏:‏ إذا سمعت اللّه تعالى يقول في القرآن‏:‏ يا أيها الذين آمنوا فأرْعها سمعك فإنها خيرٌ يأمر به أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد اللّه فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهَّدت في الدنيا ورغَّبت في الأُخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط اللّه المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم‏.‏ ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ‏"‏رواه الشيخان عن أبي هريرة واللفظ لمسلم‏"‏ ‏)‏، وقوله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وإنما كان الذي أوتيتُه وحياً ‏)‏ أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء واللّه أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، وللّه الحمد والمنة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ أمَّا الوَقود فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنت لها واردون‏}‏ والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت، العظيمة السوداء الصلبة النتنة، وهي أشد الأحجار حرّاً إذا حميت أجارنا اللّه منها، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود ‏{‏اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة‏}‏‏:‏ أما الحجارة فيه حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار، وقال مجاهد‏:‏ حجارة من كبريت أنتن من الجيفة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون اللّه كما قال(1) تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ ‏"‏حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول وقال ابن كثير‏:‏ وهذا الذي قاله ليس بقوي‏"‏الآية‏.‏

وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما خبت زدناهم سعيراً‏}‏ وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها، قال‏:‏ ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعدت للكافرين‏}‏ الأظهر أن الضمير عائد إلى النار ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان‏.‏ ‏{‏أعدت‏}‏ أي أرصدت وحصلت للكافرين باللّه ورسوله، وقد استدل كثير من أئمة السنّة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى ‏{‏أعدت‏}‏ أي أرصدت وهيئت، وقد وردت (2)أحاديث كثيرة في ذلك منها‏:‏ ‏(‏تحاجت الجنة والنار ‏)‏ ومنها‏:‏ ‏(‏استأذنت النار ربَّها فقالت ربِّ أكلَ بعضي بعضاً فأذن لها بنفَسَين‏:‏ نفسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف ‏)‏، وحديث ابن مسعود‏:‏ سمعنا وَجْبَة فقلنا ما هذه‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها ‏)‏ وهو مسند عند مسلم، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس‏.‏

 تنبيه ينبغي الوقوف عليه

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتو بسورة من مثله‏}‏ وقوله في سورة يونس‏:‏ ‏{‏بسورةٍ مثل‏}‏ يعم كل سورة في القرآن، طويلة كانت أو قصيرة، لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً‏.‏ وقد قال الرازي في تفسيره‏:‏ فإن قيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، وقل يا أيها الكافرون، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين قلنا ‏:‏ فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا‏:‏ إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم‏:‏ ‏{‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏.‏ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏25‏)‏

{‏ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ‏}

لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذي صدقوا إمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله ذكر الشيء ومقابله‏.‏ وأما ذكر الشيْ ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله‏.‏ فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏، فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها وقد [1]جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل‏}‏‏.‏

قال السدي في تفسيره‏:‏ إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا‏:‏ هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏قالوا هذا الذي رزقنا من قبل‏}‏ معناه مثل الذي كان بالأمس، وقال آخرون‏:‏ ‏{‏هذا الذي رزقنا من قبل‏}‏ من ثمار الجنة لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتوا به متشابهاً‏}‏ وعن يحيى بن أبي كثير قال‏:‏ يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة‏:‏ كُلْ فاللون واحد، والطعم مختلف‏.‏

وقال ابن جرير بإسناده في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتوا به متشابها‏}‏ يعني في اللون والمرأى وليس يشبه في الطعم‏.‏ وهذا اختيار ابن جرير، وقال عكرمة ‏{‏وأتوا به متشابها‏}‏ قال‏:‏ يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، وعن ابن عباس ‏(‏لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ‏)‏، وفي رواية ‏(‏ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم فيها أزواج مطهرة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ مطهرة من القذر والأذى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مطهرة من الأذى والمأثم، وعن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى ‏{‏ولهم فيها أزواج مطهرة‏}‏ قال‏:‏ من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق ‏"‏رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك قال ابن كثير‏:‏ والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم فيها خالدون‏}‏ هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، من الموت والانقطاع فلا آخر له، ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام‏.‏‏.‏‏.‏ واللّه المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم، برٌّ رحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 27‏)‏

{‏ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ‏.‏ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ‏}

قال السدي‏:‏ لما ضرب اللّه هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ الآيات الثلاث قال المنافقون‏:‏ اللّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل اللّه هذه الآية إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم الخاسرون‏}‏ ‏"‏ذكره السدي في تفسيره عن ابن عبا وابن مسعود‏"‏وقال قتادة‏:‏ لما ذكر اللّه تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون‏:‏ ما بال العنكبوت والذباب يذكران‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها‏}‏ أي أن الله لايستحي من الحق أن يذكر شيئاً مما قلَّ أو كَثُر، وإن اللّه حين ذكر في كتابه الذباب العنكبوت قال أهل الضلالة‏:‏ ما أراد اللّه من ذكر هذا‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها‏}‏‏.‏

ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف، وقيل‏:‏ لا يخشى أن يضرب مثلا ما، أيَ مثلٍ كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيراً و ما ههنا للتقليل، وتكون بعوضة منصوبة على البدل، كما تقول‏:‏ لأضربنَّ ضرباً ما، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة، ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها‏)‏ وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما فوقها‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ فما دونها في الصغر والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر المحققين، وفي الحديث‏:‏‏:‏ ‏(‏لو أن الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء‏)‏ والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة‏(‏ فأخبر أنه لا يستصغر شيئاً يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، فكما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب‏}

وقال‏:‏ ‏{‏مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلا عبداً مملوكا لا يقدر على شيء‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو من يأمر بالعدل‏}‏‏؟‏ الآية‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ وفي القرآن أمثال كثيرة‏.‏

قال بعض السلف‏:‏ إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن اللّه قال‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏، قال قتادة‏:‏ ‏{‏أما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ يعني هذا المثل، ‏{‏وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلى هو‏}‏، وكذلك قال ههنا‏:‏ ‏{‏يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الإ الفاسقين‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يضل به كثيراً يعني به المنافقين ويهدي به كثيراً يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه اللّه، ويهدي به يعني المثل كثيراً من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم، ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين‏}‏، قال أبو العالية‏:‏ هم أهل النفاق، وقال مجاهد عن ابن عباس ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين‏}‏ قال‏:‏ يعرفه الكافرون فيكفرون به‏.‏ وقال قتادة ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين‏}‏ فسقوا فأضلهم اللّه على فسقهم‏.‏

والفاسقُ في اللغة‏:‏ هو الخارج عن الطاعة‏.‏ تقول العرب‏:‏ فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن جحرها للفساد‏.‏ وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏:‏ الغرابُ والحدأةُ والعقرب والفأرة والكلب العقور‏)‏ فالفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الآية الفاسقُ الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون‏}‏، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏؟‏ إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏}‏ الآيات، إلى أن قال‏:‏ ‏{‏والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار‏}‏ وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم هو وصية اللّه إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضُهم ذلك هو تركهم العمل به‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها وأتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه اللّه وهو قول مقاتل بن حيان‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهدُه جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهد لهم على صدقهم‏.‏ قالوا‏:‏ ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق‏.‏ وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري‏.‏ فإنه قال‏:‏ فإن قلت فما المراد بعهد اللّه‏؟‏ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحد كأنه امر وصّاهم به ووثَّقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى‏}‏، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله‏:‏ ‏{‏أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم‏}‏ وقال آخرون‏:‏ العهد الذي ذكر تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا‏}‏ الآيتين‏.‏ ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً‏.‏ حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ قال‏:‏ ما عهد إليهم من القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ قيل‏:‏ المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسهر قتادة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم‏}‏ ورجحه ابن جرير‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏ قال في الآخرة، وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم، مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر‏.‏ وما نسبه إلى اهل الإسلام فإنما يعني به الذنب‏.‏ وقال ابن جرير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏‏:‏ الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏28‏)‏

{‏ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ‏}

يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده‏:‏ ‏{‏كيف تكفرون بالله‏}‏ أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره، ‏{‏وكنتم أمواتا فأحياكم‏}‏ أي وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون‏}‏، وقال ابن عباس ‏{‏كنتم أمواتا فأحياكم‏}‏‏:‏ أمواتاً في اصلاب آبائكم لم تكونوا شيئاً حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم ‏"‏هذه رواية ابن جريج عن ابن عباس، والرواية الثانية رواية الضحّاك عنه‏"‏قال‏:‏ وهي مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين‏}‏ وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى ‏{‏ربنا أمتنا اثنتي وأحييتنا اثنتين‏}‏ قال‏:‏ كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم هذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أُخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أُخرى‏:‏ فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29‏)‏

{‏ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ‏}

لما ذكر تعالى دلالةَ من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض، فقال‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات‏}‏ أي قصد إلى السماء‏.‏ والاستواء ههنا متضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعاً‏.‏ والسماء ههنا اسم جنس، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم‏}‏ أي وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين‏}‏ الآيات‏.‏

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاَ ثم خلق السماوات سبعاً، وهذا شان البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره فاما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏ فقد قيل‏:‏ إن ثم ههنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر‏:‏

قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده

وقيل‏:‏ إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

وقال مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا‏}‏ قال‏:‏ خلق الله الأرض قبل السماء، فلماخلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول‏:‏ ‏{‏ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سموات‏}‏ قال‏:‏ بعضُهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض‏.‏ وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏}‏ فهذه وهذه دالتان على ان الارض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها‏}‏ قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض‏.‏

وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الارض خلقت قبل السماء، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً وقد حررنا ذلك في سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها‏}‏ ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعاً فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضيه ثم السماوية، دحى بعد ذلك الارض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30‏)‏

{‏ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ‏}

يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة‏}‏ أي واذكر يا محمد إذا قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك، ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون‏}‏ وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏، فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من ‏{‏صلصال من حمأ مسنون‏}‏ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم قاله القرطبي ‏.‏

أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك‏.‏

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على اللّه، ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم اللّه تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏‏؟‏ الآية‏.‏ وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون‏:‏ يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء‏؟‏ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهل وقع الاقتصار علينا‏؟‏ قال اللّه تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعُبَّاد والزهاد، والأولياء والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون والمحبون له تبارك وتتعالى، المتبعون رسله صلوات اللّه وسلامه عليهم ‏.‏

وقيل‏:‏ معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل‏:‏ إنه جواب ‏{‏ونحن نسبِح بحمدك ونقدس لك‏}‏، فقال‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به‏.‏ وقيل‏:‏ بل تضمن قولهم‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك‏}‏ طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال اللّه تعالى ذلك‏:‏ ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم‏.‏ ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة واللّه أعلم‏.‏

 ذكر أقوال المفسرين

قال السدي في تفسيره‏:‏ إن اللّه تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا‏:‏ ربنا وما يكون ذاك الخليفة‏؟‏ قال‏:‏ يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويقتل بعضهم بعضاً‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ وإنما معنى الخلافة التي ذكرها اللّه إنما هي خلافة قرن منهم قرناً قال‏:‏ والخليفة الفعلية من قوله‏:‏ خلف فلان فلاناً في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون‏}‏‏.‏ ومن ذلك قبل للسلطان الأعظم خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً‏.‏

قال ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ إن أول من سكن الأرض الجن، فافسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضاً قال‏:‏ فبعث اللّه إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل اللّه في قلوبهم الضمير في قلوبهم يعود على الملائكة لا على الجن فتنبه أن ذلك سيكون، فقالوا بالقول الذي علمهم‏.‏ وقال قتادة في قوله ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏‏:‏ كان اللّه أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏‏؟‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏ لأن اللّه أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها‏:‏ وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم‏؟‏ فأجابهم ربهم ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏، يعني أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعاً، قال، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا‏:‏ يا رب خبرنا - مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏}‏، قال قتادة‏:‏ التسبيح والتقديس الصلاة، وقال السدي عن ابن عباس ‏{‏ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏}‏‏:‏ نصلي لك‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏}‏، قال نعظمك ونكبرك‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ التقديس هو التعظيم والتطهير‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ سبوح قدوس، يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له، وكذلك قيل للأرض‏:‏ أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة فمعنى قوله الملائكة إذا ‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏‏:‏ ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ‏{‏ونقدس لك‏}‏ ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك‏.‏

عن أبي ذر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما اصطفى اللّه لملائكته‏:‏ سبحان اللّه وبحمده‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري‏"‏وروي أن رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاً في السماوات العلا ‏(‏سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى‏)‏ ‏"‏رواه البهيقي عن عبد الرحمن بن قرط‏"‏‏{‏قال إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏ قال قتادة‏:‏ فكان في علم اللّه أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة‏.‏

 وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليقة، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب‏.‏ والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنّة في أبي بكر‏.‏ أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصدّيق بعمر بن الخطاب، أو بتركه مشورة في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، واللّه أعلم‏.‏

ويجب أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، عدلاً، مجتهداً، بصيراً، سليم الأعضاء، خبيراً بالحروب والأراء، قرشياً على الصحيح؛ ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة والروافض‏.‏ ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا‏؟‏ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إلا أن تروا كفراً بواحاً) ‏ (3) عندكم من اللّه فيه برهان‏)‏، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من جاءكم وأمْرُكم جَميعٌ يريد أن يفرِّق بينكم فاقتلوه كائنا من كان‏)‏ وهذا قول الجمهور‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31 ‏:‏ 33‏)‏

{‏ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ‏.‏ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ‏.‏ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ‏}

هذا مقام ذَكَر اللّه تعالى فيه شرفُ آدم على الملائكة، بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر اللّه هذا المقام عقيب هذا ليبيّن لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ قال السدي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً، والدواب فقيل هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس ‏"‏هذه رواية السدي عن بن عباس، والثانية رواية الضحاك عنه‏"‏وقال الضحاك عن ابن عباس ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ قال‏:‏ هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس‏:‏ إنسان، ودواب، وسماء، وأرض وسهل، وبحر، وخيل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏‏:‏ علمه اسم كل دابة، وكل طير، وكل شيء، وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها، ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية عن أنَس عن النبي صلى اللَه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ‏"(4)‏أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة‏ ‏‏) "‏أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة‏ ‏‏) "‏أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة‏ ‏‏) "‏أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة‏ ‏‏)"‏أخرجه البخاري عن أنَس بن مالك ورواه مسلم والنسائي وابن ماجة‏"‏‏)‏ الحديث‏.‏ فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثم عرضهم على الملائكة‏}‏ يعني المسميات ‏{‏فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين‏}‏، قال مجاهد‏:‏ ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة‏.‏

وقال ابن جرير عن الحسن وقتادة قال‏:‏ علَّمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ إني لم أخلق خلقا إلى كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، وقال السدي ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ هذا تقديس وتنزيه من الملائكة للّه تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علّمهم اللّه تعالى ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏سبحانك لا علم لنا إلى ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ أي العليمُ بكل شيء الحكيمُ في خلقك وأمرك، وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام‏.‏ عن ابن عباس ‏{‏سبحان اللّه‏}‏ قال‏:‏ تنزيه اللّه نفسه عن السوء‏.‏

قوله تعالى ‏{‏قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}‏‏:‏ لما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه اللّه تعالى من أسماء الأشياء، قال اللّه تعالى للملائكة‏:‏ ‏{‏ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}‏ أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى‏}‏ وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان‏:‏ ‏{‏ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏}‏، وعن ابن عباس ‏{‏وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}‏‏:‏ أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والإغترار‏.‏ وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ‏{‏وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}‏ فكان الذي أبدوا هو قولهم‏:‏ ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء‏}‏ وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم‏:‏ لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم‏.‏ فعرفوا أن اللّه فضّل عليهم آدم في العلم والكرم وقال ابن جرير‏:‏ وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس، وهو أن معنى قوله تعالى ‏{‏وأعلم ما تبدون‏}‏‏:‏ وأعلم مع علمي غيب السماوات والأرض ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى علي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم‏.‏ والذي أظهروه بألسنتهم قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمونه ما كان عليه منطوياً إبليس من الخلاف على اللّه في أوامره والتكبر عن طاعته، قال‏:‏ وصح ذلك كما تقول العرب‏:‏ قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذي ينادونك من وراء الحجرات‏}‏ ذُكِر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم، قال وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}‏‏.‏